**كلوديا كاردينالي: أيقونة السينما العالمية وسفيرة الإنسانية، سيرة نجمة من تونس إلى هوليوود**
طوت السينما العالمية
صفحة ذهبية برحيل الممثلة القديرة كلوديا كاردينالي، التي غادرت عالمنا عن عمر
يناهز السابعة والثمانين، مخلفة وراءها إرثاً فنياً غنياً يمتد لأكثر من 150 دوراً
سينمائياً تحت إدارة عمالقة الإخراج. لم تكن كاردينالي مجرد ممثلة؛ بل كانت ظاهرة ثقافية،
جسدت بامتياز صورة النجمة العالمية التي حافظت على أصالتها وجذورها التونسية
الصقلية، في عالم غالباً ما يطمس الهويات.
![]() |
**كلوديا كاردينالي: أيقونة السينما العالمية وسفيرة الإنسانية، سيرة نجمة من تونس إلى هوليوود** |
**جذور متوسطية وبزوغ نجمة عالمية**
وُلدت كلوديا كاردينالي لعائلة إيطالية هاجرت من صقلية واستقرت في تونس لثلاثة أجيال، لتنشأ في بيئة فريدة
تمزج بين الثقافة المتوسطية الساحرة والتقاليد الأوروبية العريقة. هذا المزيج
الثقافي والجغرافي شكل شخصيتها وأثر في مسيرتها الفنية التي امتدت لعقود. لم تكن بدايتها
في عالم التمثيل مخططاً لها، بل جاءت صدفة، كما اعتادت أن تروي قصتها، قائلة:
"كل شيء بدأ بالبيكيني".
- شاركت الشابة الجميلة آنذاك في مسابقة "أجمل إيطالية في تونس"، ومنها وجدت نفسها في مهرجان
- البندقية السينمائي المرموق. وعلى الرغم من الفرص التي انهالت عليها، كانت ترفض العروض
- باستمرار، مفضلةً طموحها في التدريس على بريق الشاشة.
لكن مقالاً صحفياً
وصفها بـ"الشابة التي ترفض السينما" دفعها لخوض التجربة بدافع الاكتشاف
والمغامرة. رحلة فنية حملتها من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، عملت في أستراليا
وأمريكا وروسيا وكندا، لتصبح بحق النموذج الحقيقي للممثلة العالمية التي تتخطى
الحدود الجغرافية والثقافية.
**مسيرة فنية استثنائية من "جحّا" إلى عمالقة الإخراج**
على الرغم من أصولهاالإيطالية، لم تكن كلوديا كاردينالي تتقن الإيطالية في بدايتها، بل كانت تتحدث
بلهجة صقلية بالإضافة إلى الفرنسية بطلاقة. في فترة مراهقتها، أعجبت بشدة ببريجيت
باردو ومارلون براندو، لكن التمثيل لم يكن في حسبانها. كانت فتاة خجولة ولكنها
تتمتع بشخصية قوية ومغامرة، وكما وصفت نفسها "كنت أشبه بالفتيان في تصرفاتي"،
وكان هاجسها الدائم هو إثبات قوة المرأة.
- تضمنت بداياتها الفنية دوراً في فيلم "الخواتم الذهب" للمخرج الفرنسي رينيه فوتييه، ثم فيلم "جحّا"
- الفرنسي التونسي للمخرج جاك باراتييه. في هذا الفيلم، جسدت دور "أمينة" الثانوي، بينما أدى عمر
- الشريف شخصية جحا في أولى خطواته السينمائية خارج مصر. ومن هنا، بزغت نجمة "السمراء
- الجذابة" كلوديا كاردينالي.
شهد عقد الستينيات تحولها إلى أيقونة سينمائية حقيقية، حيث عملت تحت إدارة أسماء لامعة في عالم الإخراج الأوروبي، من بينهم: فيدريكو فيلليني، لوكينو فيسكونتي، ماورو بولونييني، سيرجيو ليوني، ماركو فيريري، ولويجي كومينتشيني.
**أدوار خالدة ونقطة تحول في "روكو وإخوته"**
كان فيلم "روكو
وإخوته" للمخرج فيسكونتي (1960) نقطة تحول مفصلية في مسيرة كاردينالي. شخصية
جينيتا التي جسدتها أضافت لمسة من التفاؤل والاستقرار وسط السرد العائلي المتوتر،
وكشفت عن موهبتها التمثيلية الفذة. امتازت كاردينالي بقدرتها على التنوع، رافضة
التكرار في أدوارها؛ فجسدت العشيقة والمومس والسيدة الأرستقراطية والأم المعذبة
وحتى المرأة الحديدية.
- بعد جينيتا، تألقت في دور زوجة رجل يعاني من العجز الجنسي (مارشيللو ماستروياني) في فيلم
- "أنتونيو الجميل" لماورو بولونييني. وقد صرحت مازحةً خلال إحدى مقابلاتها: "كان علينا أن
- نتصدى لانتقادات أهل صقلية الذين لم يتقبلوا فكرة أن يكون رجل صقلي عاجزاً جنسياً". هذا الموقف
- يعكس قدرتها على معالجة قضايا حساسة بجرأة فنية.
لم تحصر كاردينالي
نفسها في سينما واحدة، بل تنقلت ببراعة بين السينما الإيطالية والفرنسية، واستقطبت
اهتمام مخرجين عالميين مثل يرجي سكوليموفسكي، وريتشارد بروكس، وبيار شوفالييه،
وفيليب دو بروكا، وفريد بوغدير، وهنري فرنوي الذي أسند لها لاحقاً دور أمه في
فيلمه "مايريغ". كما تركت بصمتها في هوليوود، وكان أشهر أعمالها هناك
فيلم "ذا بينك بانثر" للمخرج بلايك إدواردز بجانب بيتر سيلرز.
**تحف فنية في الستينيات"ثمانية ونصف" و"الفهد"**
لا يمكن الحديث عن
مسيرة كلوديا كاردينالي في الستينيات دون الإشارة إلى تحفتين سينمائيتين صدرتا في
عام 1963: "ثمانية ونصف" لفيدريكو فيلليني، الذي جمعها مجدداً بمارشيللو
ماستروياني، و"الفهد" للوكينو فيسكونتي، الذي أخرج لها أربعة أفلام
رائعة.
- في "ثمانية ونصف"، جسدت كاردينالي دور المرأة المثالية والملهمة، والحلم بعيد المنال في خيال
- مخرج سينمائي (ماستروياني) يعاني من الاكتئاب ويلجأ إلى عالمه الداخلي. أما في "الفهد"، فأدت
- دور أنجيليكا، ابنة العمدة الثري، التي يزوجها الأمير سالينا (برت لانكستر) لابن أخيه (ألان دولون).
- هذا الدور رمز لقبول الأمير بزوال الطبقة الأرستقراطية وصعود البرجوازية الجديدة، معبراً عن
- التحولات الاجتماعية الحاسمة التي رافقت انحدار
عالم قديم وبزوغ إيطاليا الحديثة.
وكيف ننسى دورها الأيقوني
"جيل" في رائعة سيرجيو ليوني "ذات زمن في الغرب"، الذي جمعها
بهنري فوندا. وعن هذا الفيلم قالت: "كانت تجربة استثنائية على كل الأصعدة. كنت
المرأة الوحيدة في فيلم أبطاله رجال قساة يدور في الصحراء".
**تراجع وتألق متقطع ومبادئ راسخة**
شهدت العقود التالية تراجعاً
في زخم أعمالها مقارنة بالستينيات الذهبية، لكن كاردينالي واصلت نشاطها بوتيرة
متقطعة، منهية مسيرتها بفيلم "جزيرة الغفران" (2022) للمخرج التونسي رضا
الباهي، الذي أخرج لها الفيلم بينما كانت تعاني من آثار مرض الزهايمر. لقد حافظت
على حضورها الفني حتى فترة قصيرة قبل تراجع نشاطها.
- عُرِفت كاردينالي بحشمتها ورفضها المتكرر للتعري في الأفلام، على الرغم من محاولات بعض
- السينمائيين لإقناعها. هذا الموقف المبدئي كلفها بعض الأدوار، لكنه أكسبها مكانة خاصة وصورة
- "الفتاة العذراء الجميلة" في زمن كانت فيه الشهرة تُشترى أحياناً بالتنازلات. اعتبرت استغلال الجسد
- وسيلة لا تليق بمهنة التمثيل، وهذا ما رسخ مكانتها كفنانة ذات مبادئ.
**سفيرة للإنسانية ووفاء للجذور**
بعيداً عن الأضواء،
حافظت كلوديا كاردينالي على خصوصية حياتها، رافضة مزجها بالشأن العام. لم تتزوج،
ولم تسع خلف الشهرة، بل فضلت العمل في المجالات الإنسانية بصفتها سفيرة لليونسكو. اهتمت
بقضايا المرأة، وحماية الطبيعة، وحقوق الإنسان، وأطفال كمبوديا، ومرضى الإيدز.
- في مناسبات عدة، أكدت أن السينما أتاحت لها أن تكون نساء كثيرات في حيوات متعددة، وجعلتها
- تكتشف العالم والآخرين ونفسها. على المستوى الشخصي، ظلت وفية لمكان نشأتها، تونس، وكانت
- تعود إليها وتشعر بالألم لما آلت إليه أوضاعها وأوضاع العالم العربي، معبرة عن حزنها لدمار سوريا
- وقوارب الموت القادمة من الضفة التي ولدت فيها.
فى الختام
ورغم كل الخسارات، بقيت
متفائلة وتؤمن "بالمكتوب"، وترى أن الزمن لا يجب العبث به. رفضت عمليات
التجميل على الرغم من التجاعيد التي كست وجهها الذي كان رمزاً للجمال الآسر، مؤكدة
أن ذلك "رفض للزمن الذي يمر فينا ويجعلنا ما نحن عليه". لقد كانت كلوديا
كاردينالي أكثر من ممثلة؛ كانت أيقونة للجمال، والموهبة، والمبادئ، والالتزام
الإنساني، وستبقى ذكراها خالدة في قلوب محبي الفن والإنسانية.